سورة قريش
لِإِيلَافِقُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ (2)فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍوَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ (4)
استجابالله دعوة خليله إبراهيم , وهو يتوجه إليه عقب بناء البيت وتطهيره: (رباجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات). . فجعل هذا البيت آمنا ,وجعله عتيقا من سلطة المتسلطين وجبروت الجبارين ; وجعل من يأوي إليه آمناوالمخافة من حوله في كل مكان . . حتى حين انحرف الناس وأشركوا بربهم وعبدوا معه الأصنام . . لأمر يريده سبحانه بهذا البيت الحرام .
ولما توجه أصحاب الفيل لهدمه كان من أمرهم ما كان , مما فصلته سورة الفيل . وحفظ الله للبيت أمنه , وصان حرمته ; وكان من حوله كما قال الله فيهم: (أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم ?).
وقد كان لحادث الفيل أثر مضاعف في زيادة حرمة البيت عند العرب في جميع أنحاء الجزيرة , وزيادة مكانة أهله وسدنته من قريش , مما ساعدهم على أن يسيروا في الأرض آمنين , حيثما حلوا وجدوا الكرامة والرعاية , وشجعهم على إنشاء خطين عظيمين من خطوط التجارة - عن طريق القوافل - إلى اليمن في الجنوب , وإلى الشام في الشمال . وإلى تنظيم رحلتين تجاريتين ضخمتين:إحداهما إلى اليمن في الشتاء , والثانية إلى الشام في الصيف .
ومع ما كانت عليه حالة الأمن في شعاب الجزيرة من سوء ; وعلى ما كان شائعا من غارات السلب والنهب , فإن حرمة البيت في أنحاء الجزيرة قد كفلت لجيرته الأمن والسلامة في هذه التجارة المغرية , وجعلت لقريش بصفة خاصة ميزة ظاهرة ; وفتحت أمامها أبواب الرزق الواسع المكفول , في أمان وسلام وطمأنينة . وألفت نفوسهم هاتين الرحلتين الآمنتين الرابحتين , فصارتا لهم عادة وإلفا !
هذه هي المنة التي يذكرهم الله بها - بعد البعثة - كما ذكرهم منة حادث الفيل في السورةالسابقة , منة إيلافهم رحلتي الشتاء والصيف , ومنة الرزق الذي أفاضه عليهمبهاتين الرحلتين - وبلادهم قفرة جفرة وهم طاعمون هانئون من فضل الله .ومنة أمنهم الخوف . سواء في عقر دارهم بجوار بيت الله , أم في أسفارهموترحالهم في رعاية حرمة البيت التي فرضها الله وحرسها من كل اعتداء .
يذكرهم بهذه المنن ليستحيوا مما هم فيه من عبادة غير الله معه ; وهو رب هذا البيت الذي يعيشون في جواره آمنين طاعمين ; ويسيرون باسمه مرعيين ويعودون سالمين . .
يقوللهم:من أجل إيلاف قريش:رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت الذي كفللهم الأمن فجعل نفوسهم تألف الرحلة , وتنال من ورائها ما تنال (فليعبدوارب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع). . وكان الأصل - بحسب حالة أرضهم - أنيجوعوا , فأطعمهم الله وأشبعهم من هذا الجوع (وآمنهم من خوف). . وكانالأصل - بحسب ما هم فيه من ضعف وبحسب حالة البيئة من حولهم - أن يكونوا في خوف فآمنهم من هذا الخوف !
وهو تذكير يستجيش الحياء في النفوس . ويثير الخجل في القلوب . وما كانت قريش تجهل قيمة البيت وأثر حرمته في حياتها . وما كانت فيساعة الشدة والكربة تلجأ إلا إلى رب هذا البيت وحده . وها هو ذا عبدالمطلب لا يواجه أبرهة بجيش ولا قوة . إنما يواجهه برب هذا البيت الذييتولى حماية بيته ! لم يواجهه بصنم ولا وثن , ولم يقل له . . إن الآلهةستحمي بيتها . إنما قال له:"أنا رب الإبل وإن للبيت ربا سيمنعه" . . ولكنانحراف الجاهلية لا يقف عند منطق , ولا يثوب إلى حق , ولا يرجع إلى معقول.
وهذه السورة تبدو امتدادا لسورة الفيل قبلها من ناحية موضوعها وجوها . وإن كانت سورة مستقلة مبدوءة بالبسملة , والروايات تذكر أنه يفصل بين نزول سورة الفيل وسورة قريش تسع سور . ولكن ترتيبهما في المصحف متواليتين يتفق مع موضوعهما القريب . .