تذكُّرُ الماضي والتفاعلُ معه واستحضارُه ، والحزنُ لمآسيه
حمقٌ وجنونٌ ، وقتلٌ للإرادةِ وتبديدٌ للحياةِ الحاضرةِ. إن ملفَّ
الماضي عند العقلاء يُطْوَى ولا يُرْوى ، يُغْلَقُ عليه أبداً في
زنزانةِ النسيانِ ، يُقيَّدُ بحبالٍ قوَّيةٍ في سجنِ الإهمالِ فلا يخرجُ
أبداً ، ويُوْصَدُ عليه فلا يرى النورَ ؛ لأنه مضى وانتهى ، لا
الحزنُ يعيدُهَ ، ولا الهمُّ يصلحهُ ، ولا الغمَّ يصحِّحُهُ ، لا الكدرُ
يحييهِ ، لأنُه عدمٌ ، لا تعشْ في كابوس الماضي وتحت مظلةِ
الفائتِ ، أنقذْ نفسك من شبحِ الماضي ، أتريدُ أن ترُدَّ النهر
إلى مَصِبِّهِ ، والشمس إلى مطلعِها ، والطفل إلى بطن أمِّهِ ،
واللبن إلى الثدي ، والدمعة إلى العينِ ، إنَّ تفاعلك مع
الماضي ، وقلقك منهُ واحتراقك بنارهِ ، وانطراحك على أعتابهِ
.وضعٌ مأساويٌّ رهيبٌ مخيفٌ مفزعٌ
القراءةُ في دفتر الماضي ضياعٌ للحاضرِ ، وتمزيقٌ للجهدِ ،
:ونسْفٌ للساعةِ الراهنةِ ، ذكر اللهُ الأمم وما فعلتْ ثم قال
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ﴾ انتهى الأمرُ وقُضِي ، ولا طائل من تشريحِ)
جثة الزمانِ ، وإعادةِ عجلةِ التاريخ.
إن الذي يعودُ للماضي ، كالذي يطحنُ الطحين وهو مطحونٌ
أصلاً ، وكالذي ينشرُ نشارةُ الخشبِ . وقديماً قالوا لمن يبكي
على الماضي : لا تخرج الأموات من قبورهم ، وقد ذكر من
يتحدثُ على ألسنةِ البهائمِ أنهمْ قالوا للحمارِ : لمَ لا تجترُّ؟ قال
أكرهُ الكذِب.
إن بلاءنا أننا نعْجزُ عن حاضِرنا ونشتغلُ بماضينا ، نهملُ قصورنا
الجميلة ، ونندبُ الأطلال البالية ، ولئنِ اجتمعتِ الإنسُ والجنُّ
على إعادةِ ما مضى لما استطاعوا ؛ لأن هذا هو المحالُ بعينه
.
إن الناس لا ينظرون إلى الوراءِ ولا يلتفتون إلى الخلفِ ؛ لأنَّ
الرِّيح تتجهُ إلى الأمامِ والماءُ ينحدرُ إلى الأمامِ ، والقافلةُ تسيرُ
إلى الأمامِ ، فلا تخالفْ سُنّة الحياة