سمرة...!!
نعم آنسة.
ماذا بك؟ منذ بداية الدرس وأنت شاردة... انتبهي للدرس
حاضر آنسة
تعودالمعلمة لدرسها وأطفالها دون أن تنسى الانتباه لسمره وشرودها، ولكن سمرهلم تعد معها، بل بقيت شاردة الذهن بعيداً عن كل ما يحيط بها، وربما لمتسمع شيئاً مما كانت المعلمة تقوله لرفاقها، وما تريهم إياه من صورتوضيحية تلفت نظر أي طفل، انتهت المعلمة من درسها؛ وأعادت النداء:
سمره...
تنبهت سمره للنداء وكأن أحداً ما أوقظها من نوم عميق، تجيب وهي مرتبكة ودموعها تعتصر في عينيها:
نعم
تعالي إلى هنا
تسير سمره باتجاه معلمتها بتردد، وتتساءل ماذا سأقول للمعلمة؟؟
ماذا بك يا ابنتي، ليست عادتك، فأنت أكثر من يطالب بالإجابة على أسئلتي فيالدرس، وأكثر مَن يسأل، لماذا لا تنتبهين اليوم للدرس أبداً؟
ويغص صوتها بالدموع:
لا شيء آنسه، أنا منتبهة.
لا لم تسمعي أي شيء مما قلته، وأنت لا تكذبين عادةً، لا تخافي حبيبتي قوليلي هل أنت مريضة، هل حصل أي شيء في البيت؟ ماذا حدث أخبريني!
لا آنسة لم يحدث شيء، ولكنني اشتقت لأخي سمير...
تداركت المعلمة دمعة كادت أن تسقط من عينيها، فهي تعرف كم كانت سمره تحب أخاها سمير وكم كان متعلقاً بها...فقالت لها بهدوء:
تعالي معي، وخاطبت الأطفال: فلنخرج إلى الساحة الآن للعب ولكن دون أن نؤذي بعضنا.هيا..
أجاب الأطفال وبصوت واحد فرح: نعم آنسة، حاضر آنسة...
خرجت المعلمة ممسكة يد سمره إلى غرفتها، سألتها:
هل حدثتك ماما عنه اليوم، حتى اشتقت له هكذا
كل يوم ماما تتحدث عنه، ولكن ليس لأن ماما تتحدث عنه أشتاقه، ولكنني أشتاقلأن أذهب معه حيث كان يأخذني كل يوم؛ يشتري لي أشياء لذيذة، وأحياناًيأخذني معه عند أصدقائه، كلهم يحبونني لأنني أخته، وكلهم مازالوا كلمارأوني ينادونني سمورة لأنه كان يناديني هكذا..
تحاول المعلمة تداركدمعات غصت بها، فهي أيضاً فقدت مَن تحب، وكانا على وشك إعلان خطبتهما،ولكنه غادرها قبل أن يلتقيا، وهاهي كلمات سمره البسيطة الطفولية عن شوقهالسمير تفجر فيها شوقها لحبيبها، وتحسد سمره على طفولتها في أعماقها فهيقادرة على التعبير عن إحساسها، أما هي فالواقع الاجتماعي يمنعها من ذلك..وتعود إلى مواساة نفسها من خلال سمره:
أنت تعلمين أين ذهب...أليس كذلك؟؟
نعم هو ذهب إلى الجنة هكذا قالت ماما، ولكن لماذا لم يأخذني معه، فقد كان يأخذني معه إلى كل مكان.
تعودفدوى لهواجسها التي حركتها سمره: أيا ليتهم حبيبتي يستطيعون أخذنا معهم...سامحك الله يا سمره، أحاول أن أتناسى طوال الوقت حزني، وأنت بكلمة واحدةأعدت حضوره وكأنه وليد اللحظة:
حبيبتي.... سمير استشهد
أعرف... ووالد حنان استشهد، وابن جيراننا استشهد، وجارتنا استشهدت... هل كلهم سيستشهدون!؟؟
ألا تعلمين بأن الشهداء لا يموتون، وبأنهم معنا دائماً، فهم يموتون من أجلكم يا سمرة.
لا أريد أن يموت سمير من أجلي، أريد أنا أن أموت من أجله..
حبيبتي، عندما تكبرين ستعرفين أكثر؛ كم هو جميل أن يموت الإنسان من أجل الدفاع عن أشياء كبيرة وجميلة وعظيمة....
تتساقط دموعها، وكأنها لا تسمع شيئاً مما يقال لها:
ولكنني أشتاق إليه
تشعرفدوى بحيرة، وتتساءل مع ذاتها: كيف ستقنع طفلة ما زالت في السادسة منعمرها، وتردّ على أسئلتها، فهي لم تدرك بعد ما هو الموت، وماذا يعني؟ فجأةتخطر ببالها فكرة علّها تريحها من هذه المهمة الصعبة:
سمرة اليوم،بعد أن ينتهي الدوام سأذهب معك إلى البيت وأطلب من أمك أن تأخذك لزيارته،وقولي له كل شيء، فهو يسمعك لأنه يحبك جداً، ولكنك لن تسمعيه.
هل يسمعني حقاً؟؟!!
نعم سيسمعك...
سأقول له بأنني أشتاق إليه وأحبه كثيراً.
قولي له كل شيء حبيبتي، هيا اذهبي الآن للعب مع الأطفال في الساحة
لا ..أريد أن أذهب إلى الصف، أريد أن أرسم له صورة جميلة سآخذها له معي.
لا بأس اذهبي وارسمي له أشياءً حلوة.
تذهبسمره فرحة بوعد معلمتها بأنها ستزور سمير وتقول له ما تريد، وتبقى فدوىسجينة أحزانها وأفكارها، ليتها كانت كسمره تستطيع أن تكتفي بوعد كهذافيخفف من ألمها، ولكن كيف ذلك وهي تدرك كل شيء، تدرك بأنها فقدته ولم يعدموجوداً في حياتها، كيف ستستطيع إكمال حياتها؟؟ كثيرة الأفكار التيراودتها. أغلقت باب الغرفة وبدأت تبكي بصمت...
تدخل سمرة وصديقتها حنانغرفة في بيت واسع أسموه مدرسة تجاوزاً، لأن الأهالي يخافون على أطفالهم منالذهاب إلى مدرستهم الفعلية بسبب الحواجز والقصف، فاعتمد هذا البيت بشكلمؤقت لاستكمال السنة الدراسية للأطفال.
تمسك سمرة بقلمها وتخرج ورقة بيضاء من دفترها؛ وتبدأ بالرسم، سألتها حنان:
ماذا تفعلين؟
أرسم لوحة سآخذها معي اليوم إلى أخي سمير، قالت الآنسة بأنه سيسمعني إذاذهبت إليه وقلت بأنني أشتاق إليه، وسيرى اللوحة إن أخذتها معي.
هل أستطيع أن أرسم لبابا صورة ويراها إن أنا أخذتها له؟
نعم هكذا قالت الآنسة؛ اسأليها، تعالي اجلسي وارسمي له...
ماذا سترسمين أنت لسمير؟
تفكر سمرة بحيرة تبدو على ملامحها وتقول:
سأرسم له... سأرسم له.. نعم سأرسم له أشياء يحبها، سأرسم له الشمس فقد كانيحبها، وكان يقول دائماً لأمي: لا تخافي أمي ستسطع الشمس يوماً، وسأرسم لهمريم...
و مَن مريم؟
بنت جيراننا كان يحبها كثيراً، وهي كانتتحبه وتسألني عنه كلما رأتني ألعب أمام الباب في الحارة، وهو أيضاً قال ليمرةً: سمورة هل تحبين مريم.. إنها بنت جميلة أليس كذلك؟ وأنا أحبها أيضاًوضحكنا.. ما أجمل ضحكته!!!! آه تذكرت....وسأرسم له أرضاً فيها تراب..
تراب!!! لماذا؟؟
لأنه كان يحب التراب كثيراً، وقال لي بأنه هو مَن قال لأمي سنسميها سمرة فهي تشبه لون التراب..
سمرة؛ قولي لي ماذا أرسم لبابا؟
أرسمي مثلي أشياء يحبها
سأرسم له ماما وأنا... وفلسطين فقد كان لا يحب أحداً مثلما يحبنا هكذا كان يقول لي ولماما دائماً.
تضحك سمرة:
وكيف سترسمين فلسطين؟ فلسطين كبيرة جداً!
لست أدري، ولكن سأرسم وردة وأكتب عليها فلسطين، فقد كان يقول: فلسطين أحلى وردة بهالكون.
أرسمي يا حنان واتركيني أرسم، لألا نتأخر سيأتي الأطفال الآن.
بدأتالطفلتان الرسم، وكأنهما تسابقان الزمن خائفتين من دخول الأطفال والمعلمةوبدء الدرس، وحصل ما كانتا خائفتين منه، دخل الأطفال مع المعلمة إلى الصف،أحست حنان و سمرة بالانزعاج، وقالت سمرة في نفسها لن أكمل رسمي؟ لماذاجاءوا الآن؟ ولكن فدوى كانت ما تزال تسكنها حالة الشوق لمن تحب، وليسلديها القدرة على أن تعطي درسها المقرر في الساعة الأخيرة من الدوام،فقالت للأطفال:
ما رأيكم الآن يا صغاري أن نرسم؟ فليخرج كلٌ منكم ورقة وقلماً، وليرسم كل ما يخطر بباله وما يريده.
هللالأطفال وفرحوا، وبدأ الضجيج الناتج عن إخراج الأوراق والأقلام منالحقائب، نظرت سمرة إلى فدوى نظرة ذكية وأرفقتها بابتسامة شكر وفخر أبدتللمعلمة وكأن سمرة تشكرها لأنها فعلت هذا من أجلها ومن أجل حنان، وعادتوصديقتها إلى رسمهما، لم تشأ فدوى إشعارهما بأنها تراقبهما، ولكنها شعرتبالفرح من أجل ابتسامتهما الجميلة التي استطاعت رسمها، ولكن فرحها كانممزوجاً بحزن لا تستطيع إخفاءه من أجل كل هؤلاء الأطفال الذين ما زالواصغاراً على ما يحدث لهم.
هيا يا أطفال، فلنر ما رسمتم، هيا فقد اقتربموعد الذهاب إلى البيت؛ تخاطب سمرة: ماذا رسمت يا سمرة، ولكنها لا تريهارسمها بل تحاول إخفاءه. لم تكرر المعلمة سؤالها فهي تعرف خصوصية ما ترسمهسمرة وحنان.
يسمع جرس الانصراف:
هيا يا أطفال جهزوا أنفسكم،وتلتفت لسمرة فتجدها تنظر نحوها: تبتسم لها وتقول هيا يا سمرة سأذهب معكلقد وعدتك، فرحت سمرة ولملمت أشياءها بسرعة، وركضت متلهفة نحو فدوى،وخرجتا معاً باتجاه بيت سمرة بعد أن اطمأنت المعلمة بأن جميع الأطفالخرجوا من الصف، ووصلتا إلى الزقاق الذي تسكن فيه سمرة فبدأت تسير بفرحوفخر، فهي تسير مع معلمتها في المدرسة وتمسك بيدها كأنها تريد أن تقول لكلالناس إنها معلمتي في المدرسة، وهي ستزورنا في البيت، وحين وصلتا إلىالبيت أسرعت سمره إلى البيت ونادت ماما...ماما.. الآنسة فدوى معي، ردتالأم من الداخل:
أهلاً وسهلاً، أدخليها إني قادمة
تفضلي آنسة.. تفضلي
أهلاً وسهلاً آنسة فدوى
أهلاً بك أم سمير، أريد أن أتحدث معك قليلاً، فأنا لا أستطيع أن أتأخر فأنت تعرفين الطرق والحواجز.
نعم ولكن ستتغدين معنا، وبعدها أبو سمير يستطيع أن يوصلك
لا أستطيع واعذريني، فلم أخبر أحداً أني سأتأخر وسيقلقون
إذاً سأصنع فنجان قهوة
وتغادر أم سمير إلى المطبخ، وتعود بعد قليل بالقهوة، وتقدمها لفدوى.
هل تدخنين مع القهوة
نعم، معي سجائر
سموره، هاتي صحن سجائر من المطبخ.
حاضر ماما
وتقومبسرعة، فهي تنتظر بفارغ الصبر إقناع والدتها بأخذها لزيارة سمير، لأنهاترفض أخذها معها كلما ذهبت، وقد اشتكت لفدوى مرة ذلك، حينها حاولت أنتقنعها بأن الأطفال ليس من الضروري ذهابهم، لكن الحالة اليوم كانت مختلفةلذلك جاءت. بعد أن عادت سمره؛ طلبت منها فدوى أن تدخل إلى الغرفة لأنهاتريد التحدث مع والدتها، فلبت الطلب بفرح:
حاضر آنسة
تفضلي.. آنسة فدوى
لا تخافي أم سمير، فقط أريد أن أطلب منك أن تأخذي سمره لزيارة قبر أخيها سمير رحمة الله عليه.
كيف؟ يا آنسة إنني أخاف عليها من زيارة قبره.
لا تخافي عليها، هي اليوم كانت تبكي وتشتاق إليه، ووعدتها بأن تأخذيها لزيارته لتقول له أنها تشتاقه وتحبه.
تبدأ الأم ببكاء صامت:
مسكينة حبيبتي كان يحبها كثيراً، ومتعلق بها وعلقها به رحمة الله عليه.
أعرف ذلك، لقد قالت لي، وأتمنى أن تأخذيها مساءً لزيارته
كما ترين سآخذها إذا كان هذا يريحها، فهي ومنذ استشهاده(حبيبي) كل يومتجلس أمام صورته وتحكي معه، وتسألني أسئلة أعجز عنها، شكراً لك حبيبتيلأنك تهتمين بالأطفال إنهم بحاجة لنا في مثل هذه الظروف.
لا تشكريني خالتي أم سمير، فهذا شيء قليل مما يجب أن نفعله، الآن أرجوك اسمحي لي بالذهاب فقد تأخرت.
يعني ألن تتغدي معنا؟
لا أرجوك، اعتني بسمره إنها ذكية وحساسة جداً، إلى اللقاء
مع السلامة يا ابنتي، الله يخليلك شبابك ويكثر من أمثالك.
تغادر فدوى بيت أم سمير، تأتي سمره على عجل:
هل ذهبت الآنسة
نعم حبيبتي، هيا لتأكلي
هل سأذهب معك لزيارة سمير؟
نعم سنذهب أنا وأنت وأختك سلمى حين تأتي من عملها فقد تأخرت وبدأت أنشغل عليها.
تشعر سمرة بالفرح، وتغادر بسرعة إلى الغرفة لتطمئن على ما رسمته لسمير، ولتحضِّر ما تريد قوله له، وتقف الأم بحيرة:
ارحمنا وارحمهم يا رب فهم ما زالوا صغاراً لا يدركون أي شيء في هذه الحياة مثلنا، الله يجيبك بالسلامة يا سلمى!!
تدخل سلمى من الباب، وهي تنادي أمها كعادة كل مَن في البيت:
مرحبا ماما، ماذا طبخت لنا اليوم، إنني جائعة ومرهقة فقد أخرونا كعادتهم على الحاجز، أُف ما هذه الحياة يا أمي؟
ماذا نفعل يا حبيبتي، علينا أن نحتمل حتى نستطيع التخلص منهم، الله يخلصناوينتقم منهم، المهم الحمد لله على سلامتك حبيبتي والله بدأت الأفكارالسيئة تراودني حين تأخرت، هيا ادخلي لتأكلي يا بنيتي ولتطعمي أختك معكفهي لم تأكل حتى الآن.
تنادي سلمى أختها وتدخلان المطبخ، وبعد قليلٍ تخرج سمرة متلهفة وتنادي أمها وهي تحمل لوحتها بيدها وتطويها بعناية:
مــامــا ألن نذهب؟ لقد تغدت سلمى
بلى.... هيا يا سلمى جهزي نفسك ، سنذهب لزيارة أخوك سمير قبل أن تغيب الشمس.
وهل ستذهب سمره معنا
نعم، في الطريق أقول لك ما حدث، هيا.
في هذه الأثناء سُمع دوي قصف قريب، صرخت الأم:
سلمى أمسكي أختك ولا تخرجا، أنا قادمة، سأغلق باب المطبخ الخارجي وآتيإليكما، يبدو أنهم يقصفون المخيم، ترتعش سمره بحضن أختها وتبكي، سلمىتحاول تهدئتها:
لا تخافي سموره، أنت بطلة، وسمير قال لنا ألا نخاف أليس كذلك؟
نعم ولكنني أخاف صوت القصف، هل سنستشهد؟
لا حبيبتي الآن ينتهي القصف ويهدأ.
أريد أن أدخل إلى الحمام، تعالي معي
اذهبي ولا تخافي، أنا معك
وفجأةً تسمعان دوياً شديداً، وناراً تخرج من باب المطبخ تركض سلمى باتجاه النار وتترك يد سمره وتصرخ بصوت تقطعه دموعها:
أمـــــــــــــي....مــ ــــامــ ــــا
ويزداد بكاء سمره وتصرخ:
ما........ما
في اليوم الثاني لاستشهاد أم سمير، كانت سمره تجلس وتمسك قلماً وورقة وترسم، ضمها والدها، والدموع تخنقه وسألها:
ماذا ترسمين حبيبتي؟
أرسم أخي سمير، لأن أمي كانت تحبه كثيراً....
_________________